عند الرجوع لموضوع تعنت البنات و رفضهم للخاطبين و الأعذار التي يأتون بها
كل هذه السلوكيات و التصرفات كنت أعتبرها وليدة التطور و التمدن
لــــكــــن
بعدما سمعت واطلعت بهذه القصة من التراث الخراساني القديم
تغيرت النظرة بالنسبة لي للمسألة أعلاه
فأعدت حياكة القصة و حبكتها بالشكل الذي أراه مناساباً و جميلاً
لأقدمها لكم
-------
يحكى أنه في قديم الزمان و سالف العصر و الأوان, وفي بلاد خراسان صبية جميلة فاقت أهل زمانها في الحسن و الجمال و البهاء والكمال, كما قال فيها بعض واصفيها:ـ
كما اشتهت خلقت حتى اذا كملت * * * في قالب الحسن لا طول ولا قصر
والحسن أصبح مشغوفا بصورتها * * * والصـد أبعـدهـــا والتيه والخفـر
فالبدر طلعتها والغصن قامتها * * * والمسك نكهتها مــــــــــا مثلها بشر
كأنها أفرغت من مـــــــاء لؤلؤة * * * فـي كــل جارحة من حسنها قـمـر
و كانت قد بلغت سن الزواج و كثر الخطاب و كانوا للقرب طلاب, و كان والد الصبية الجميلة قد أقسم أن تتزوج ابنته بمن تختاره وحدها, و كان هذا سلاحه في ابعاد أي احراج عن نفسه مع أصحابه من التجار و كبار القوم و غيرهم. فتقدم لها شيخ تاجر كبير في السن كثير المال, أزرق العينين قبيح المنظر, فأتاها والدها بالخبر وأبلغها أن التاجر يريد أن يتزوجك, فقالت أنا لا أباع لشيخ أوقعته الهموم في أسوأ حال, ولله در من قال:ـ
ســألتها قبلة يومـــا وقد نظرت * * * شيبـي وقـــــــد كنت ذا مــــــــال ونعــم
فـــأعرضت عـن مرامي وهي قائلة * * * لا والــذي خلــق الإنسان من عـــدم
ما كان لي في بياض الشيب من ارب * * * أفي الحياة يكون القطن حشو فمي؟
فلما سمع والدها قولها قال: والله انك معذورة, فتقدم آخر و كان مصبوغ اللحية, فنظرت إلى ذلك الرجل فقالت: ما هذا العيب و الريب و سواد الوجه و الشيب؟ و أنشدت هذه الأبيات:ـ
بدا لي من فلان ما بدا لي * * * قفا والله يصنع بالنعــــــــال
وذقن للبعوض بها مجال * * * وقرن مال من ربط الحبــــال
أيا مفتون في خدي وقدي * * * تزوّر بالمحال ولا تبالـــــي
وتصبغ بالطيوب بياض شيبٍ * * * وتخفي ما بدا للإحتيــال
تروح بلحية و تجيئ بأخرى * * * كأنك بعض صنّاع الخيال
ثم أنشدت هذين البيت أيضاً:ـ
قالت أراك خضبت الشيب قلت لها * * * سترته عنك يا سمعي ويا بصري
فقهقهت ثم قالـت ان ذا عـجــب * * * تكاثر الغش حتى صار في الشَّعـــــر
ـ
فلما سمع أبوها شعرها قال لها: والله صدقت, و بعد أيام تقدم لها شخص فشاورها والدها فنظرت إليه فوجدته أعور, فقالت: هذا أعور, وقد قال فيه الشاعر:ـ
لا تصحب الأعور يوما وكن * * * في حذر من شره و مينه
لــو كان في الأعور خيرة * * * ما أوجد الله العمــى بعينــه
فقال لها أبوها و هذا آخر قد تمنى ودك فما تقولين, فنظرت إليه فوجدته قصيراً وذقنه سائلة إلى وسطه, فقالت: هذا هو الذي قال فيه الشاعر:ـ
فلي صديـق وله لحيــــة * * * أنبتهـا الله بـلا فائـدة
كأنها بعض ليالي الشتاء * * * طويلـة مظلمـة باردة
فقال لها والدها, كما أقسمت على نفسي ألا أزوجك إلا للذي ترضينه لنفسك بعلا, ويصير لك أهلا. و بعد انقضاء مدة من الزمان و الفتاة على هذه الحال من رفض الخاطبين وسخريتها منهم بلسانها الفصيح, خرجت الفتاة برفقة بعض من جواريها و خواصها إلى السوق, فوقع نظرها على شاب مليح الوجه رجيح القد,كما وصفه الشاعر:ـ
أبرزوا وجهك الجميل * * * ثم لاموا من افتتن
لو أرادوا صيانتي * * * ستروا وجهك الحسن
فنظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة و تعلق قلبها به, لأنه كان بديع الجمال و ألطف من نسيم الشمال, فأكملت المسير إلى دكان والدها و أخبرته بما في جوفها فقالت: يا أبت والله لا يتزوجني إلا سيدي هذا لأن خده أسيل ورضابه سلسبيل, وريقه يشفي العليل ومحاسنه تحير الناظم والناثر, كما قال فيه الشاعر:ـ
وريقه خمر وأنفاســــه * * * مسك وذاك الثغر كافور
أخرجه رضوان من داره * * * مخافة ان تفتن الحور
يلومه الناس على تيهه * * * والبدر مهما تاه معـذور
ولأنه صاحب الشعر الأجعد و الخد الأورد, واللحظ الساحر الذي قال فيه الشاعر:ـ
وشـــادن بوصال منه واعدنـي * * * فـالـقـلب في قلــق والعين منتظـره
أجفانه ضمنت لي صدق موعده * * * فكيف نوفي ضمانا و هي منكسره
فلما سمع صديق لوالدها كان متواجداً في الدكان ما أنشدته من الأشعار عن محاسن الفتى, تعجب من فصاحتها و اشراق بهجتها, فقال له والدها: لا تعجب من بهجتها التي تفضح شمس النهار ولا من حفظها لرقائق الأشعار, فإنها مع ذلك تقرأ القرآن العظيم بالسبع قراءات, وتروي الحديث بصحيح الروايات, وتكتب بالسبعة أقلام وتعرف من العلوم ما لا يعرفه العالم العلاّم, ويدها أحسن من الذهب و الفضة, فانها تعمل الستور والحرير و تبيعها في كل واحدة بخمسين دينار من الذهب الأحمر. فلم يصبر الأب من شدة الفرح بل انه قصد الشاب و قال: يا سعادة من تكون هذه في داره و يجعلها من ذخائر أسراره ثم انه قال له أيضا تزوج من ابنتي فإنها اختارتك و ذكر له صفتها و ما تعرفه, وقال له هنيئا لك اذا تزوجتها فانه أعطاك من لا يبخل بالعطاء. فأطرق الفتى برأسه إلى الأرض وهو يضحك على نفسه ويقول في سره: انني الى هذا الوقت من غير افطار, ولكن أختشي من التجار أن أقول ما عندي مال أتزوجها به, فنظرت الفتاة الجميلة إلى أطرافه وقالت لأبيها خذ بيدي و امضي بي إليه حتى أعرف نفسي عليه, فأخذها وأوقفها قدامه وقال له: ما تقول يا ولدي؟ فلم يرد عليه جوابا. فقالت الفتاة: يا سيدي وحبيب قلبي, ما لك لا ترد لي جوابا, فخذ بيدي وأكون سبب سعادتك, فرفع رأسه إليها وقال: هل الزواج بالغصب؟ فأنت غالية بألف دينار كما سمعت ممن تم رفضهم على يدك, فقالت له: أقبل بتسعمائة. قال: لا. قالت: بثمانماية. قال: لا. فما زالت تنقص من الثمن الى أن قالت له: مائة دينار. قال: ما عندي مائة كاملة, فضحكت و قالت: كم تنقص مائتك؟ قال: ما معي لا مائة ولا غيرها, أنا والله لا أملك لا أبيضاً ولا احمراً من درهم ولا دينار, فانظري لك غيري وهو في قرارة نفسه يتحسر عليها ألف حسرة. فلما علمت أن ما معه شيء قالت: خذ بيدي واجعل كأنك تحدثني سراً, ففعل ذلك. فأخرجت من جيبها كيسا به ألف دينار و قالت له: زن منه تسعمائة في مهري, وابق المائة معك تنفعنا. ففعل ما أمرته به, و دفع ثمن مهرها بتسعمائة دينار من ذلك الكيس و تم كتب كتابها بمباركة والدها و العديد من الحاضرين. فمضى بها الفتى إلى داره, و كانا كما قال الشاعر:ـ
لم تنظر العينــــان أحسن منظـــرا * * * من عاشقين على فراش واحد
متعانقين عليهما حلـل الرضى * * * متوسدين بــمـــعصم وبســـاعــــد
يا من يلوم على الهوى أهل الهوى * * * هل تستطيع صلاح قلب فاسـد
واذا صفـــا من زمانـــك واحــــــد * * * فهو المراد وعش بذاك الواحد
و استمرا مع بعضمها وقد سكنت محبة كل واحد منهما في قلب صاحبه. و عاشا في أحسن المسرات, ورزقهما الله بالأولاد والبنات, إلى أن أتاهما هادم اللذات و مفرق الجماعات, فسبحان الباقي بلا زوال والحمد لله على كل حال.ـ